15/08/2023 - 12:51

أستاذة ممكن سؤال؟ | قصّة

أستاذة ممكن سؤال؟ | قصّة

المصدر: Getty Images

 

"أولئك الّذين غنّوا زورًا بأنّ عربستان أجمل من برلين شاركوا في تلك الجريمة، الّتي اقتُرِفت في حقّ نساء العالم".

أيان هرسي علي؛ رئيسة «مؤسّسة إنقاذ المرأة الشرقيّة» في هولندا.

 

(1)

للمرّة الثالثة على التوالي خلال شهر واحد، راود نجاح كابوسٌ بأنّها قد عادت. كان عليها أن تفتّش عن نظّارتها محاذاة السرير في كلّ مرّة؛ كي تلبسها وتتعرّف مرّة أخرى معالم شقّتها في برلين؛ كي تتأكّد أنّها ليست في بيتها القديم في عربستان. نهضت وتردّدت في فتح ستائر النافذة بسبب تلك اللافتة الكبيرة اللعينة، المعلّقة في الشارع من أحد الأحزاب الألمانيّة، عليها صورة عربيّ طويل اللحية واسع العينين معقوف الأنف، تحتها كُتِب:

«Der Araber! Feind der Zivilisation!»

لحقها هذا العربيّ في أماكن متعدّدة في أنحاء المدينة، بعدما ضاقت أحزاب اليمين باللاجئات العربيّات. بعدما صعدت تلك الأحزاب بالطبع قبل عام ونصف، وصلت نجاح مكالمة هاتفيّة من صديقتها لينا، الّتي تعمل في إحدى مؤسّسات إنقاذ المرأة في باريس، وقد أخبرتها: "بركة! بركة صعود اليمين العنصريّ! صرنا مش ملحّقين شغل بسبب الهجمة على اللاجئات!".

حضّرت نجاح قهوة الصباح، وجلست إلى الطاولة، فوجدت ذاك العربيّ يرمقها من خارج النافذة. سكبت القهوة الساخنة في المصرف، وارتدت ملابسها من أجل بدء صباحها في مكان آخر. 

 

(2)

اليوم الّذي انهارت فيه عربستان، كان اليوم الأخير لنجاح في برلين طالبةَ ماجستير في مجال الفيزياء الكمّيّة. كانت قد فشلت في الحصول على منحة الدكتوراة، وقد حُكِم عليها بأن تعود. خلال انتظارها موعد رحلتها في المطار وصلت الأخبار: الرجال العرب لبسوا جلود النمور، وحملوا الهراوات الصخريّة، وسحبوا نساءهم إلى الكهوف للعودة بهنّ إلى العصر الحجريّ. في البداية لم يفهم العالم ما حدث، خاصّة أنّ الرجال العرب استبدلوا بلغتهم لغة غريبة تشبه لغة النياندرتال، عندها اقترب أحد الصحافيّين الأجانب من أحد الرجال العرب، وسأله: "لماذا قرّرت العودة إلى العصر الحجريّ؟"، أجابه العربيّ:

"هوغا بوغا هوغا بوغا هوغا بوغا!".

ولاحتواء الموقف، قرّر المجتمع الدوليّ إيقاف جميع الرحلات الجوّيّة إلى عربستان، وإخلاء رعاياهم ووضعهم في الحجر الصحّيّ لمدّة أسبوع، وبناء جدار عازل حول عربستان، وطرد جلّ الذكور العرب من الدول الغربيّة إلى عربستان، ودراسة كيفيّة إنقاذ النساء العربيّات من رجالهنّ.

بعد أسابيع من إلغاء رحلة عودتها في المطار، وبينما كانت نجاح في ’مركز الهجرة‘ بغية تقديم طلب اللجوء، وصلتها مكالمة هاتفيّة من لينا: "بركة! بركة انهيار عربستان! صرنا مش ملحّقين شغل بسبب الخطّة الدوليّة لإنقاذ النساء العربيّات!". وهكذا تقرّر أن تحلّق الطائرات الأوروبّيّة والأمريكيّة فوق أجواء عربستان، وأن تلقي منشورات إخلاء النساء العربيّات من عربستان عليها التعليمات الآتية:

حافظي على هدوئك.

لا تقلقي من أن يَعْثُر على هذا المنشور؛ لأنّه فَقَدَ قدرته على قراءة اللغات البشريّة.

أخبريه بأنّك تريدين الذهاب إلى العين من أجل تعبئة الماء، أو تريدين الذهاب إلى البرّيّة من أجل جمع التوت.

توجّهي إلى أقرب ميناء، وستجدين سفينة لإخلائك إلى أوروبّا.

 

(3)

طلبت نجاح قدحًا من القهوة السوداء في المقهى المحاذي لجامعتها، فتحت حاسوبها لاستكمال العمل على أطروحتها لدرجة الدكتوراة. ارتشفت قهوتها، ووضعت على الهاتف تطبيقًا للمساعدة الذاتيّة والتأمّل، اخترعته إحدى العربيّات القاطنات في كندا، يُدْعى «Jookh-wipe». ظهر ألبرت أينشتاين على شاشة الهاتف وهو يلبس كوفيّة على كتفيه، ويقف في حلبة للدبكة، وبدأ يصفّق ويسحّج:

- أوه! أنت عبقريّة، يا نجاح!

- أوه! لقد فعلتِها، يا نجاح!

- أوه! أنت ناجحة، يا نجاح!

- أوه! هزمتِ أعداء النجاح، يا نجاح!

- أوه! لقد حقّقتِ ذاتك، يا نجاح!

- أوه! لا تكترثي بما يقول أعداء النجاح، يا نجاح!

- أوه، ما فعلتِه كان حقًّا لتقرير المصير لا هروبًا فرديًّا، يا نجاح!

 

فجأة، وبينما ألبرت أينشتاين يسحج، ظهر على شاشة حاسوبها إشعار بوصول رسالة إلى صندوق بريدها، فتحت الرسالة، وصرخت في منتصف المقهى بعدما قرأت محتواها: "مرحبًا، أستاذة، ممكن سؤال؟".

 

(4)

خلال بضع ساعات، ظهرت الشرطة الألمانيّة، والمخابرات الألمانيّة، والجيش الألمانيّ، و«المركز الفيدراليّ الألمانيّ للسيطرة على الأوبئة والجوائح»، و«مكتب الأمن السيبرانيّ الرقميّ الألمانيّ»، وبُنِيَت منطقة عازلة محيطها ثلاثمئة متر مربّع، وذلك لدراسة الرسالة الخطيرة الّتي وصلت إلى نجاح من إحدى قرى عربستان.

وقد أفرجت السلطات عن نجاح بشرط أن يرافقها حرّاس شخصيّون طوال الوقت. وقد تواصل عدد من المؤسّسات الإعلاميّة الألمانيّة معها؛ من أجل مقابلات إذاعيّة وتلفزيونيّة لسؤالها عن التجربة المروّعة لتسلُّم تلك الرسالة. قبل ذلك انتشرت أخبار الرسالة، وأثارت صخبًا في أنحاء العالم المتحضّر؛ وهذا أدّى إلى خروج الناس في مظاهرات في أنحاء المدن الرئيسيّة الأوروبّيّة، تعلن أنّنا ’كلّنا مع نجاح‘، وأنّ مثل هذه الرسائل هو أمر غير مقبول، لكنّها اعتداء ليس فقط على نجاح بل علينا جميعًا. وقد طالب بعض من الشخصيّات العامّة، قصف بيت صاحب الرسالة عن طريق الدرون الطائر؛ لكي يتعلّم رجال العصر الحجريّ عدم العبث بأمن الشعوب الحرّة.

وبعد بضعة أيّام، اندلعت مظاهرات أخرى من جديد، إثر أخبار رسالة جديدة وصلت إلى صندوق بريد نجاح من ذات المصدر، وكانت عبارة عن ثلاث علامات سؤال (؟؟؟). وبعد ثماني ساعات من الرسالة الثانية، قرّر الرئيس الألمانيّ أن يدخل عدد من أفراد القوّات الخاصّة، مع عدد من اختصاصيّي اللغة العربيّة، إلى المقهى المحجور؛ للردّ على تلك الرسالة، وذلك من أجل "فهْم عدوّنا وفهْم نقاط ضعفه". وقد ظهر على الشاشات عدد من الساسة المعارضين، يؤكّدون أنّ الحلّ الأفضل هو عدم الردّ، واستخدام أسلوب الـ ’Ghosting‘، وأنّ الأزمة ستتلاشى بعد ذلك آنيًّا إذا تجاهلنا الرسالة.

رغم تلك المطالبات، قرّرت السلطات الرسميّة المجازفة، والمضيّ في الموضوع.

 

(5)

أمسك رئيس القوّات الخاصّة جهاز الاتّصال اللاسلكيّ، وأبلغ رؤساءه بأنّه سيبدأ بالعمليّة.

في غرفة فندقيّة على الجانب الآخر من مدينة برلين، جفلت نجاح وارتعشت بعدما تذكّرت موقفًا قديمًا في عربستان.

طبع اختصاصيّ اللغة العربيّة؛ بناء على تعليمات رئيس القوّات الخاصّة، على حاسوب نجاح رسالة:" عفوًا، مين معي؟".

تذكّرت وقتذاك شابًّا، على الجانب الآخر من طاولة في مقهًى، في إحدى بلدات عربستان الجامعيّة. بينما وقف مئات الصحافيّين في الخارج، شعر رئيس القوّات الخاصّة بتوتّر، وكأنّه يختار بين قطع أسلاك قنبلة.

كان شابًّا في نهاية عقده العشرينيّ بلحية خفيفة، يدرس علم الاجتماع أو علم النفس. ربّما كتبنا الرسالة الخطأ، همس رئيس القوّات الخاصّة لنائبه في العمليّة. نهض الشابّ فجأة، ورحل، ولم تره مرّة أخرى.

طبع اختصاصيّ اللغة العربيّة رسالة متناقضة مع الرسالة الأولى: "تفضّل، شو بدّك تسأل؟".

ربّما غضب. على الأغلب أنّه شعر بالغضب لأنّها أجابته عن أسئلته بالسياسة.

ظهرت ثلاث نقاط على شاشة المحادثة، فشعر الجنود بالجزع، ومن ثَمّ اختفت النقاط.

"شو بدّي أقلّك؟ الإسرائليّين بنو جنّة بالصحرا! الشاطر هو اللّي بستاهل يفوز!". 

ظهرت النقاط الثلاث مرّة أخرى، واختفت.

"بحسّ حالي أقرب للإسرائليّين الأوروبّيّين فكرًا من الناس هون في عربستان".

وصلت الرسالة.

"لو الإنجليز والفرنساويّين ضلّوا بعربستان كان حياتنا أحسن بكثير".

ترجم! لماذا أنت صامت؟ قال رئيس القوّات الخاصّة لاختصاصيّ اللغة العربيّة.

في اليوم التالي، طبعت الصحف حول العالم الرسالة الّتي وصلت من عربستان: "أستاذة، هلّق بما أنّك دكتورة فيزيا، وقدّ الدنيا وهيك، بدّي أسألك، اللّي بركض ورا حاله بسرعة الضوء، بخشّ في قفاه؟".

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

 

التعليقات